فصل: مسألة امرأة أرفقت زوجها بمنزل لها ثم تصدقت به:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة وهب لرجل مريض هبة ولا مال له غيرها:

قال: وسألته عن رجل مريض، وهب لرجل مريض هبة ولا مال له غيرها، فقبضها الموهوب له وهو مريض، فوهبها للواهب، ولا مال له أيضا، قال: يحوز للموهوب له الأول، ثلثه من تسعة، من مال الواهب، ويحوز الواهب الأول من هذه الثلاثة واحدا وهو ثلث مال الموهوب له الأول، فيصير في يد الأول سبعة، وفي يد الواهب الآخر اثنان، وأصل الذي يستدل به أن ينظر إلى مال له ثلث، ولثلثه ثلث، وذلك تسعة، فعلمت أنه يحوز للموهوب له ثلثه، وللواهب ستة، وأنه يرجع إلى الواهب الأول سبعة، ولورثة الواهب الآخر اثنان.
قال محمد بن رشد: جوابه في هذه المسألة عن القول بأن هبة البتل في المرض وإن كانت من الثلث، فهي بخلاف الوصية يدخل فيما علم في الواهب من ماله، وفيما لم يعلم، ولا تبطل بموت الموهوب له قبل الواهب، على حكم الوصية في بطلانها بموت الموصي لوجب إذا مات الأول قبل الثاني أن يبطل ما وهبه الثاني، وإذا مات الثاني قبل الأول، أن يبطل ما وهبه الأول.
والمعنى فيه: أن كل واحد منهما مات من مرضه ذلك، إذ لو صحا جميعا، وكانت التسعة التي هي جميع المال للواهب الأول لرجوعها إليه بالخمسة الثانية، ولو صح الواهب الأول، ومات الواهب الثاني من مرضه، لنفذت للموهوب منهما من مرضه ذلك، كان الحكم فيما ذكره على قياس القول الذي ذكرته، سواء مات الواهب الأول قبل الثاني أو بعده، يصير لورثة الموهوب له الأول ثلث المال، وهو ثلثه من تسعة، ويصير لورثة الواهب من هذه الثلاثة واحد فيبقى في الذي ورثه الموهوب له الأول، اثنان، يحصل في الذي ورثه الواهب الأول سبعة، ثم يرجع ورثة الموهوب له الأول على...... وهو الواهب الأول في هذا الواحد، فيأخذون منه ثلثه، ثم يرجع لورثة الموهوب له الثاني، وهو الواجب عليه في ثلثه ثم يرجع ورثة الموهوب له الأول، وهو الواجب الثاني عليهم في ثلث هذا الثلث، فيأخذون منه ثلثه هكذا أبدا يدور هذا السهم بينهم حتى ينقطع، وسواء علم الهبة أو لم يعلم على ما يأتي عليه جوابه، من أن هبة البتل في المرض لا تبطل بموت الموهوب له قبل الواهب، وتدخل فيما علم الواهب وما لم يعلم، وكذلك قال ابن عبدوس في كتابه للرد، وأن التسعة الأسهم ثلثها ثلاثة، لورثته الواهب الثاني، ثم يؤخذ منها سهم، وهو ثلث ماله، قال: فاعلم أن هذا السهم دائر؛ لأنك إن أعطيه لورثة الأول، قام عليهم ورثة الثاني في ثلثه، كما صار؛ لأن هبته البتل تدخل فيما علم به الميت وما لم يعلم، ثم يقوم عليهم ورثة الأول في ثلث ثلثه فيدور هكذا بينهم حتى ينقطع، فلما كان هذا هكذا، وجب أن يسقط السهم الدائر، ويقسم ذلك السهم بين الوارثين، على ما استقر بأيديهم، فيصير المال بينهم على ثمانية أسهم، ستة لورثة الواهب الأول، واثنان لورثة الواهب الثاني.
وقد قال أبو محمد: هذا الذي ذكر عيسى عن ابن القاسم- هي مسألة دور، ولم يجعل فيها دورا، وهذا الذي قال أبو محمد عن ابن القاسم، لم يجعل فيها دورا لا يصح، على ما جرى جوابه من أن هبة البتل تدخل فيما علم الواهب وفيما لم يعلم، وإنما يصح إسقاط الدور فيها إن لم يعلم الواهب بالهبة على القول بأن هبة البتل لا تدخل إلا فيما علم الواهب، وهو قول ابن القاسم في رواية عيسى عنه في المدنية وقوله أيضا في رواية أصبغ عنه في بعض روايات العتبية في سماعه من كتاب المدبر، فحكم في هذه الهبة في المرض بحكم الوصية، ولم يحكم لها بحكم الوصية فيما تقدم له في رسم الجواب إذا قال فيه: إن هبة البتل يحل ورثة الموهوب له فيها محل موروثهم إذا مات قبل الواهب، وهذا على قياس مطرد؛ لأنه إذا لم يحكم للهبة في المرض بحكم الوصية في سقوطها بموت الموهوب له قبل الواهب، وجب ألا يحكم له بحكمها في أنها لا تدخل إلا فيما علم، فالذي ينبغي أن يتأول عليه، أن ذلك إنما هو اختلاف من قوله، مرة حكم للهبة في المرض بحكم الوصية في كل حال، ومرة رآها أقوى من الوصية، فلم يحكم لها بحكمها في حال. وبالله التوفيق.

.مسألة يتصدق في مرضه على رجل بثلث دار له:

ومن كتاب الثمرة:
وسألت: عن الرجل يتصدق في مرضه على رجل بثلث دار له، وفي الدار طوب وخشب، أراد أن يبني بها، فقال المتصدق عليه: لي ثلث الطوب والخشب، وأبى الورثة أن يكون ذلك له، قال: ليس له في الطوب والخشب شيء.
قال محمد بن رشد: هذا بَيِّنٌ عَلَى ما قاله؛ لأنه يكون تبعا للدار في الوصية بها أو الصدقة في الصحة أو المرض، إلا ما يكون تبعا لها في البيع، وهو ما كان مبنيا فيها، لا ما كان موضوعا فيها من خشب أو حجر، أو ما أشبه ذلك، وبالله التوفيق.

.كتاب الصدقات والهبات الثالث:

.أعطى أخاه منزلا في صحته وكتب له بذلك كتابا:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد، وآله وصحبه وسلم. كتاب الصدقات والهبات الثالث من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم من كتاب الكبش قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن رجل أعطى أخاه منزلا في صحته، وكتب له بذلك كتابا، وكتب في كتاب العطية إن مات أخوه الذي أعطي تلك العطية في حياة المعطي فالمنزل مردود على المعطي، ولا حق فيه لورثة المعطى ولا يورث؛ على هذا الشرط أعطاه، فحاز المعطى عطيته في حياة المعطي أو لم يحز، ثم مات المعطَى قبل المعطي، فقال: أرى هذا مثل الوصية تكون للمعطى من الثلث، ألا ترى أنه أنفذ له العطية إن مات قبل المعطي، فكأنه إنما أوصى له بها، وعجل له قبضها، قلت: وهي وصية على كل حال، حازها في صحة المعطي أو لم يحز، فقال: نعم، وقد قال مالك ما يشبه هذا، قال أصبغ: ليس للمعطي فيها بيع، ولا تحويل عن حال؟ فإن مات المعطى رجعت إلى المعطي بمنزلة العمرى، وإن مات المعطي كانت كالوصية في ثلثه، ولا تكون كالوصية في الرجوع فيها، فكذلك مسألتك.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن أول قوله مرتبط بآخره، فليست بعطية مبتلة بما شرط عليه فيها من أنه إن مات قبله، فهي عليه رد؛ لأن ذلك يقتضي ألا يكون له فيها تفويت ببيع ولا غيره، ما دام المتصدق حيا حتى يموت، فآل أمرها إلى أنه أوصى له بها بعد موته، وعجل له الانتفاع بها طول حياته، فوجب إن مات المتصدق عليه قبله أن ترجع إليه كما شرط، وإن مات المتصدق قبله بتلت له من ثلثه على معنى الوصية، إن كان غير وارث، وقد مضى هذا في رسم الأقضية الثاني، من سماع أشهب، وتأتي المسألة متكررة في سماع ابن الحسن بعد هذا، وقول أصبغ في هذه الرواية: وإن مات المعطي كانت كالوصية في ثلثه، ولا تكون كالوصية في الرجوع فيها؛ يريد أنه ليس للمعطي أن يرجع في عطيته هذه، وإن كانت إنما تنفذ من ثلثه بما شرط فيها من رجوعها إليه إن مات المعطى قبله، ووجه ذلك أن العطية، وإن لم تكن مبتولة بما شرط فيها، فليست كالوصية بها التي له الرجوع فيها؛ لأنه قد بتلها في حياته على الشرط الذي اقتضى ألا تنفذ بعد موته إلا من ثلثه، فأشبه المدبر الذي يخرج بعد الموت من الثلث، ولا يجوز لسيده الذي دبره الرجوع في تدبيره، وقد اختلف قول مالك في الهبة البتل في المرض: هل للواهب أن يرجع فيها في مرضه فلا تنفذ، إن مات منه أم لا على قولين حسبما مضى القول فيه في رسم أخذ يشرب خمرا، من سماع ابن القاسم، من كتاب الحبس، وهذا بيّن ألا يكون له فيها رجوع؛ وقد قال بعض أهل النظر ليس بحسن قول أصبغ في معنى الرجوع، إلا في انتفاع المعطى بالمنزل حياة المعطي، وأما بعد موت المعطى، فمنذ يجب للمعطى بتلا، فله الرجوع فيه؛ لأنه من يومئذ يصير وصية، وكل ما كان وصية، أو على معنى الوصية، فله الرجوع فيه، وليس قوله عندي بصحيح؛ لأن الظاهر من قول أصبغ أنه إنما تكلم على الرجوع في عطية الرقبة بعد الموت؛ فهذا هو الذي قال: إنه لا يرجع فيه، وأما انتفاع المعطى بالمنزل حياة المعطي، فبين أنه ليس للمعطي أن يرجع فيه؛ لأنه شيء بتله في صحته، فنفذ عليه، وإن لم يكن له مال سوى المنزل، فلو قصد إلى بيان هذا، لكان عيا منه؛ وإذا لم يكن للمعطي أن يرجع في عطيته هذه بعد الموت، كما يرجع في وصيته، فيبدأ على الوصايا، ويدخل فيما علم به المعطي، وفيما لم يعلم، وقد مضى هذا المعنى في رسم الجواب، وفي آخر رسم العتق، من سماع عيسى، وبالله التوفيق.

.مسألة أم الولد يتصدق عليها سيدها:

قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن أم الولد يتصدق عليها سيدها، أيلزمها الحوز؟ فقال: حالها في ذلك كحال الزوجة فيما يتصدق به عليها؛ أما الخادم تكون معها في البيت، أو الابنة، أو ما أشبه ذلك مما لا يزايلها حيث انتقل بها سيدها، فالإشهاد وإعلان الصدقة حوز لها؛ وذلك أنه لا تقدر على حوزها بأكثر من ذلك.
وأما العبد بخارج، أو الدار تسكن، أو المزرعة، أو ما أشبه هذا مما هو بائن منها، وقبضه يمكن، فعليها أن تحوزه بقبض الخراج من العبد، وإخراج السيد من الدار، وعمران المزرعة أو كرائها لها، وجني الشجر، وما أشبه هذا مما يحاز به العبيد والعقار؛ قال: وأما الحلي والثياب، فالقبض اللبس والعارية، وما أشبه ذلك مما تصنعه المرأة بمتاعها، إذا عرفت تصنع بما تصدق عليها من الحلي والثياب، مثل هذا فهو لها حوز، وإلا فلا شيء لها؛ قال أصبغ: وإشهاد لها حوز أيضا، وإن لم يُعرف لبس ولا عارية إذا كان في يديها، وليس في يد سيدها قد خرج منه إليها.
قال محمد بن رشد: حكم لأم الولد بحكم الزوجة في حيازة ما يتصدق به عليها سيدها، فقال في الخادم تكون معها في البيت أو الابنة وما أشبه ذلك؛ أن الإشهاد وإعلان الصدقة حوز فيها؛ إذ لا يقدر في حوزها على أكثر من ذلك، وفي ذلك اختلاف في الحرة الزوجة، وقد مضى تحصيله في رسم اغتسل، من سماع ابن القاسم، وفي رسم سلف دينارا في ثوب إلى أجل، من سماع عيسى، فهو يدخل في أمر الولد على هذه الرواية؛ وأما المنزل وما عدا ما هو من متاع البيت، فلا اختلاف في أن الزوجة في حيازته عن زوجها كالأجنبي فيما يلزمه في ذلك، وكذلك أم الولد على هذه الرواية.
وفي المدونة ما يدل ظاهره على أن السيد يحوز لأم ولده ولعبده الكبير ما وهبه لهما، أو تصدق به عليهما، كما يحوز ذلك لابنه، إذا وهبه إياه، أو تصدق به عليه، وهو قوله فيها؛ لأن من تصدق بصدقة على غيره، أو وهب هبة، لا يكون هو الواهب وهو الحائز، إلا أن يكون والدا أو وصيا، أو من يجوز له أمره عليه في قول مالك؛ إذ لا أحد أحوز أمرا على أحد من السيد على عبده وأم ولده؛ إذ له أن يحجر عليهما، وأن ينتزع أموالهما، فتحجيره عليهما أقوى من تحجير الأب على ابنه، والوصي على يتيمه؟ فوجب أن تكون حيازة ما وهب لهما أحوز من حيازته، لما وهبه لابنه أو يتيمه؛ فهذا وجه ما يدل عليه ظاهر ما في المدونة، ووجه هذه الرواية أن جواز انتزاع المال تضعيف في الحيازة لا تقوية لها؛ لأنه إذا تصدق على أم ولده أو على عبده، ثم أمسك ذلك عند نفسه، ولم يدفعه إليهما، أشبه الانتزاع والارتجاع؛ إذ لم يسلم ذلك إليهما، وهما غير سفيهين؛ وأما الأب والوصي فإنما منعهما أن يسلما ما وهباه لمن إلى نظرهما كونه سفيها، فرواية يحيى أظهر، وكان أبو عمر الإشبيلي يستحب العمل بها، فإن عمل أحد بدليل المدونة، مضى عنده ولم يرد، وبالله التوفيق.

.مسألة يتصدق على امرأته بمزرعة في آخر أيام المزارعة:

قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الرجل يتصدق على امرأته بمزرعة في آخر أيام المزارعة، وهو صحيح، فأقام بعد ذلك نحوا من شهر ثم هلك، غير أنه قد أشهد لها على الصدقة وعرف بحوزها الشهود، فلم تعمل المرأة فيها عملا بحرث ولا غيره حتى مات زوجها، وزعمت أنه لم يمنعها من العمل إلا ما كان فات من الزمن مع ضعف سكته عن القليب في أوانه، وقد كانت البقر ضعفت، فلم يقلب أهل منزلها حتى مات زوجها؛ فقال: إن جاء من ذلك ما يبين عذرها، مثل أن يتصدق بذلك ثم يعجله الموت قبل أوان عمل أمكنها، أو جني شجر، أو عذق، أو إصلاح عمل حضر، فالصدقة ماضية ولا شيء عليها إذا لم تحز؛ لأن الحوز لم يمكنها ولم يجئ أوانه؛ قال: وأما ما كانت لحوزه تاركة من ضعف أو أشباه ذلك، فإنها لا تعذر به؛ لأن الضعيف يكري ويساقي ويرفق من ينتفع به، فيكون هذا ونحوه حوزا، فمن كان تاركا لجميع هذا في أوانه الذي يمكنه فيه، فلا صدقة له إلا أن يعرف ضعفه عن العمل، ويعمل ذلك على الكراء أو المساقات أو العارية، فلا يجد من يقبل ذلك منه؛ فلا أرى عليه حوزا غير الإشهاد والإعلان والاجتهاد في عرض ذلك على الكراء والمساقات والعارية، وما أشبه ذلك؛ ثم يكون ذلك له حوزا؛ قال قلت: أرأيت إن مضت أعوام والمتصدق عليه ضعيف عن العمل، وهو يعرض على الكراء أو المساقات أو العارية كل عام، ولا يجد من يقبل ذلك منه؛ أيكون حائزا أم لا؛ قال: نعم، إذا علم حرصه على ذلك، وأنه لم يزل يعرض ذلك، ويطلب لها من يعملها، والأرض ليست تحاز بأكثر من هذا، قال أصبغ مثله ما لم ينتفع به المتصدق أو يقضي فيه.
قال محمد بن رشد: وقوله في هذه الرواية في الذي يتصدق على من يحوز لنفسه من زوجة أو غيرها بمزرعة يعجل المتصدق الموت قبل أوان زراعتها وعملها، أن الصدقة ماضية، مثله في المدنية، وهو معارض لقوله ولروايته عن مالك فيها، وفي رسم تأخير صلاة العشاء، من سماع ابن القاسم في الرجل يتصدق على الرجل الحاضر بالدار الغائبة، فيعجل المتصدق الموت قبل أن يحوزها المتصدق عليه، إن الصدقة باطلة، وإن كان لم يفرط في الخروج إليها لقبضها؛ لأن لها حيازة تحاز به؛ إذ لا فرق في المعنى بين ألا يمكنه حيازة الدار لمغيبها عنه حتى يموت المتصدق بها، وبين ألا يمكنه حيازة الأرض؛ لأن أوان حوزها لم يحن؛ وأبين من ذلك في المعارضة قوله: إنه إذا تصدق بها في أوان حوزها، فضعف المتصدق عليه عن عملها، ولم يزل يعرضها على الكراء، والمساقات، والعارية، عاما بعد عام، فلا يجد من يقبلها منه؛ أن الإشهاد والإعلان والاجتهاد في عرض ذلك على الكراء والمساقات والعارية، يكفي من حيازتها؛ فقول ابن القاسم في هذه الرواية، هو مثل ما روي عن مالك في أن الدار الغائبة إذا لم يكن تفريط في قبض المتصدق عليه بها لها حتى مات المتصدق بها، أنها ماضية، وهو قول أشهب، وقد مضى بيان هذا في رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن القاسم، ولو لم يعمر المتصدق عليه الأرض، ومنع المتصدق أن يعمرها فتركها بورا حتى يقوى على عملها، لكان منعه من عمارتها حوزا لها، قال ذلك ابن القاسم وابن كنانة في المدونة، وأصبغ في الواضحة، والله الموفق.

.مسألة الرجل يتصدق على ابن له كبير بغلام:

قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الرجل يتصدق على ابن له كبير بغلام، فلا يقبضه حتى يتصدق الأب به على ابن له صغير في حجره، فينكر ذلك الكبير، ويقول: لا أجيز ما صنعت، فسخط عليه الأب، وكف عنه حتى مات الأب والغلام في يديه يحوزه للصغير، لأيهما ترى الغلام؟ فقال: أراه للصغير إذا لم يحزه الكبير. قيل له: إنه تركه خوفا من سخط أبيه، وقد أشهد أنه غير راض بما صنع، فقال: لا ينفعه الإشهاد؛ لأنه لو شاء أن يخاصمه فيه قضى له به، فقد آثر بر أبيه والتماس رضاه على أخذ صدقته، فله أجر البر إن شاء الله تعالى، ولا صدقة له إلا بالحيازة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ أنه إذا لم يقبض الابن الكبير الغلام حتى مات الأب المتصدق، فلا صدقة له؛ إذ لا تتم الصدقة إلا بالحيازة، فله أجر البر كما قال في تركه القيام على أبيه في الغلام الذي تصدق به على أخيه بعد أن كان تصدق به عليه، وكذلك يقول ابن القاسم: لو تصدق على آخر كبير فقبضه؛ لكان الأول أحق به، وأشهب يرى أن الثاني إذا حازه فهو أحق به من الأول، فيتخرج على قياس قوله إذا تصدق به على ولد له كبير، ثم تصدق به على آخر صغير، وحازه قبل أن يقبضه الأول قولان؛ أحدهما: أن حيازة الأب للصغير كحيازة الكبير لنفسه، فلا يكون للأول شيء، وإن قام عليه في حياته. والثاني: أن حيازة الأب للصغير ليست كحيازة الأب للكبير، ويكون الابن الكبير المتصدق عليه أولا بالعبد أحق به، إن قام على الأب في حياته، والقولان في حيازة الأب للصغير، هل تكون في القوة كحيازته للكبير قائمان، من مسألة رسم الجواب، فيما تقدم.

.مسألة امرأة أرفقت زوجها بمنزل لها ثم تصدقت به:

قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن امرأة أرفقت زوجها بمنزل لها، فكان في يديه يحرث مزارعه، ويجني له شجره، ويصيب جميع مرافقه؛ ثم تصدقت به على بنت لها متزوجة، أو ابن قد بلغ الحوز، وأشهدت على الصدقة، وأمرت الولد بالحوز؛ فسأل الأب ابنه أو ابنته أن يعيره ذلك المنزل يرتفق به ويقره في يده بحاله، ففعل الابن وأشهد على أبيه بالعارية، ولم يقبض المنزل من يده للحيازة، ولم يخرج منه أباه، أقره فيه بحاله، واكتفى من الحيازة بالإشهاد على أبيه بالعارية؛ قال ابن القاسم: أي حوز أبين من هذا، أو أتم، من أعار ما تصدق به عليه، فقد استكمل الحوز؛ قلت له: أما تراه قد أوهن حيازته؛ لأنه كان قبل الصدقة في يد أبيه، لم يخرجه من يده حتى أحدث الإشهاد بالعارية؛ فقال: لا وهن عليه، بل الذي فعل حوز بيّن، تتم له به صدقة أمه عليه، والعارية كالقبض.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن المرأة كانت أرفقت زوجها بالمنزل إلى غير أجل، فكان في يديه يرتفق بمنافعه، ويصيب جميع مرافقه، فلما تصدقت به بعد ذلك على ابنها أو ابنتها، سقط حق زوجها في الإرفاق، ووجب المنزل بجميع مرافقه للمتصدق عليه، فإذا أرفق أباه إياه، كان ذلك حوزا بينا منه للمنزل عن أمه، لا يدخل فيه الاختلاف الذي في قبض المخدم، والمسكن والممنوح، هل يكون قبضا للمتصدق عليه، أو الموهوب له أم لا؟ حسبما يأتي في نوازل سحنون بعد هذا؛ لأن الاختلاف لما وقع في هذا من أجل بقاء حق المخدم، والمسكن والممنوح، فيما منح إياه أو أخدمه، أو أسكنه بعد هبة الأصل والصدقة به، فمن حمل الأمر على أن المسكن والمخدم يختدم ما أخدم، أو أسكن على ملك الموهوب له أو المتصدق عليه من يوم الهبة والصدقة؛ إذ قد سقط ملك الواهب له عن الأصل، رأى ذلك حيازة؛ ومن حمله على أنه إنما يختدم ذلك، ويسكنه على ملك الذي أخدمه إياه وأسكنه حتى تنقضي خدمته أو سكناه لم ير ذلك حيازة؛ فمسألتنا خارجة عن هذا المذهب؛ إذ لم يبق للزوج حق في المنزل بعد الصدقة، ومن أكرى داره، أو آجر عبده، ثم وهب ذلك لرجل قبل انقضاء أمد الكراء والإجارة، فلا يكون قبض المكتري والمستأجر قبضا للموهوب له؛ لأن المكتري إنما يسكن على ملك الواهب الذي يأخذ الكراء، وكذلك المستأجر إنما يستخدم على ملكه، وفي ذلك اختلاف لا يحمله القياس، وقع في سماع ابن القاسم من كتاب الرواحل والدواب، ومن كتاب المديان والتفليس، في رسم مساجد القبائل، وقد مضى هنالك القول على ذلك، وكذلك المساقي في الحائط لا يكون حائزا لمن وهب له أو رهن إياه، وقع ذلك في الرهن، في رسم القضاء المحض، من سماع أصبغ، من كتاب الرهون، من أن كون الحائط في يدي مساقيه، ككونه في يدي صاحبه.

.مسألة تصدق على رجل بدار له فدفع إليه مفتاحها:

قال: ولو أن رجلا تصدق على رجل بدار له، فدفع إليه مفتاحها، وبرأ إليه من ذلك ليحوزها، كان ذلك حوزا، وإن لم يسكن المتصدق عليه الدار، ولم يسكنها غيره.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأن قبضه لمفتاح غلق الدار قبض للدار، وإن لم يسكنها، ولا أسكنها غيره، كما لو وهبه فقبضه ثوبا وصار بيده؛ لكان ذلك قبضا وحيازة، وإن لم يلبسه ولا أعاره أحدا، وبالله التوفيق.

.مسألة يتصدق على امرأته بالصدقة فتثيبه بوضع الصداق عنه:

قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الرجل يتصدق على امرأته بالصدقة فتثيبه بوضع الصداق عنه، أو تضع عنه الصداق فيتصدق عليها بمنزل له، فيموت المتصدق قبل أن تحوزه المرأة، أترى لها صدقة؛ فقال: إن الصدقات لا تكون للثواب، هي ماضية لمن تصدق بها عليه، ولا ثواب عليه فيها، ولا شيء للمتصدق عليه منها إن لم يحزها، فالمرأة التي أثابت زوجها على ما تصدق به عليها، بأن وضعت عنه صداقها، فالصداق عنه موضوع، ولا حق لها في الصدقة إلا بالحيازة؛ قال: فإن ابتدأته هي بوضع الصداق، فتصدق عليها بمنزله ثوابا لها، فالصداق موضوع عنه، وليس لها من المنزل شيء إلا بحيازة؛ قلت: فإن وهب لها هبة، فأثابته بوضع الصداق، ولم يقبض الهبة حتى مات، قال: الهبة لها، لا حوز عليها فيها، إذا كانت هبة ثواب، يعرف ذلك بوجه الأمر من حالهما؛ قال أصبغ: وكذلك الهبة قبل الثواب، قال يحيى: قال ابن القاسم: وإذا ابتدأته بوضع الصداق، فأثابها بأن أعطاها منزله، فإن كان وضع الصداق إنما كان للثواب اشترطت ذلك، فالمنزل لها إذا أثابها، ولا حيازة عليها فيه، إن مات قبل أن تحوزه، وما وضعت من صداقها، ولم تشترط له ثوابا فلا ثواب لها فيه، وإن أثيبت فلم تحزه فلا شيء لها؛ قال أصبغ: الصداق عندنا مخالف لما تهب من غير الصداق، إذا التمست عليه ثوابا، وادعت ذلك بعد موت الزوج.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الصداق لا ثواب فيه، يريد إلا أن تشترط فيه الثواب، فسواء تصدق عليها بالمنزل فأثابته بوضع الصداق، أو وضعت عنه الصداق فأثابها بالصدقة عليها بالمنزل، لا شيء لها في المنزل إلا بالحيازة. والصداق عنه موضوع، إلا أن يكون ذلك بشرط الثواب، فيكون لها المنزل دون حيازة؛ وأما إذا وهب لها المنزل، فأثابته بوضع الصداق، فقوله: إن الهبة لها لا حوز عليها فيها إذا كانت هبة ثواب يعرف ذلك بوجه الأمر من حالهما هو على مذهبه في المدونة في أن الزوجين لا ثواب بينهما في الهبة، إلا أن يدعي الواهب منهما أنه أراد بهبته الثواب، ويظهر من صورة الحال ما يدل على صدقه، وقد قيل: إنه يصدق وإن لم يظهر ما يدل على صدقه؛ وهذا القول حكاه عبد الوهاب في المعونة، فجعل حكم الزوجين في ذلك حكم الأجنبيين، وقيل: إنه لا ثواب له إلا أن يشترطه، وهو ظاهر قول ربيعة في المدونة، وقول مالك الذي يتلوه، وأما إذا ابتدأته بوضع الصداق فوهب لها هبة، فلا شيء لها فيها إلا بالحيازة؛ إذ لا اختلاف في أنه لا ثواب لها في هبة الصداق إلا أن تشترطه حسبما مضى القول فيه في رسم إن خرجت، من سماع عيسى، وذلك بين من قوله في هذه الرواية: والصداق عندنا مخالف لما تهب من غير الصداق إذا التمست عليه ثوابا، أو ادعت ذلك بعد موت الزوج يريد أنها لا تصدق إن ادعت أنها أرادت بهبته الثواب، وأنها تصدق فيما عدا الصداق إن ظهر من صورة الحال ما يدل على صدقها، فهو قوله في هذه الرواية إذا كانت هبة ثواب يعرف ذلك بوجه الأمر من حالهما، ومذهبه في المدونة، وبالله التوفيق.

.مسألة غلام قد بلغ الحلم وهو في حجر أبيه تصدق عليه أبوه بصدقات:

قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن غلام قد بلغ الحلم، وهو في حجر أبيه قد قرأ القرآن، إلا أنه لا يعرف بصلاح يزكى به، ولا فساد، إلا أنه عمر في حجر أبيه، بحداثة احتلامه تصدق عليه أبوه بصدقات، منها: مزرعة وخادم في تلك المزرعة بولدها وزوجها حر، ودور في القرى لا تغتل، ودار في حاضرة البلد كان الأب أسكن فيها بعض ولده، فتصدق عليه بهذه الصدقة، وهو في حجره، وحاله ما وصفت لك، ولم يغير الأب تلك المزرعة ولا الخادم، ولا الدار التي في حاضرة البلد عن حالاتها التي كانت عليها قبل الصدقة، ولم يكن بين إشهاده له بالصدقة، وبين موت الأب إلا نحو من شهرين أو ثلاثة، أو أكثر قليلا؛ أترى الأب يحوز على مثل هذا؛ قال: نعم، سمعت مالكا يقول: يحوز الأب على ابنه المحتلم إذا كان في حجره وولاية نظره حتى يؤنس منه الرشد؛ قلت: فما يضر هذا الغلام ترك الأب تلك الأشياء بحالها إذا لم يخرج من كان في الدار، أو ما أشبه هذا مما يرى أنه يحوز به عليه؛ فقال: أما الدار فلا حق له فيها، إذا لم يخرج منها من كان يسكنهما، وأما المزرعة والغلام، فأرى صدقته عليه بذلك ثابتة؛ قلت: فما ترى الحوز يلزم الابن المحتلم؟ قال: إذا كان في حسن نظره بمنزلة اليتيم الذي يلزم القاضي أن يدفع إليه ماله إذا كان قبل ذلك مولى عليه، فإذا عرف من الغلام حسن نظره في ماله وإصلاحه على نفسه، وأمن عليه الفساد الذي يعرف به من حسن رأيه، وجمعه على نفسه مع بلوغ الحلم، وجب عليه أن يحوز لنفسه، ولا يكون الأب حائزا على مثل هذا، ولا يزال الأب حائزا على من لم تكن هذه حاله من ولده، وإن احتلم المتصدق عليه، فليس الاحتلام بالذي يخرجه من ولاية أبيه حتى ترضى حاله، ويشهد العدول على صلاح أمره.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه الرواية: أما الدار فلا حق له فيها إذا لم يخرج منها من كان يسكنها، معارض لقوله في رسم شهد، من سماع عيسى في الذي جعل لابنته الصغيرة، ولأمهات ولده ومواليه الساكنين في الدار التي تصدق بها على ابنه الصغير، أن يسكنوا معه فيها، ما لم يتزوج واحدة منهن، إلا أن يفرق بين المسألتين بسكنى الابن المتصدق عليه معهم فيها حسبما مضى القول فيه هناك.
وقوله في آخر المسألة: فليس الاحتلام بالذي يخرجه من ولاية أبيه حتى ترضى حاله، ويشهد العدول على صلاح أمره، نص على أنه لا يخرج من ولاية أبيه بالاحتلام، وأنه محمول على السفه حتى يثبت رشده، ومثله في كتاب الحبس من المدونة، وهو ظاهر سائر المدونة وغيرها، إلا ما وقع في أول كتاب النكاح من المدونة في قوله فيه إذا احتلم الغلام، فله أن يذهب حيث شاء، فإن ظاهره أنه بالاحتلام يكون محمولا على الرشد، وتجوز أفعاله حتى يعلم سفهه، وهي رواية زياد عن مالك في البكر أنها تخرج من ولاية أبيها بالحيض، فكيف بالغلام؛ وقد تأول ابن أبي زيد قوله في المدونة: فله أن يذهب حيث شاء: أن معناه بنفسه لا بماله؛ فعلى هذا تتفق الروايات كلها، ولا يخرج عنها إلا رواية زياد عن مالك، وقد تأول أن قول مالك إذا احتلم الغلام فله أن يذهب حيث شاء، معناه إذا احتلم ورضيت حاله، بدليل قول ابن القاسم إلا أن يخاف من ناحيته سفه، فله أن يمنعه؛ وإلى هذا ذهب ابن لبابة إلا أنه أخطأ في تأويله على ابن القاسم فقال: هذا هو الحق لو مات الأب وأوصى به لم يخرج من ولاية الوصية حتى يثبت رشده، فكيف بالأب؟ وهو نص ما في كتاب الحبس من المدونة قوله فيه، ألا ترى أن الله تبارك وتعالى قال: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]، وبلوغ النكاح هو الاحتلام والحيض، فقد منعهم الله من أموالهم مع الأوصياء بعد البلوغ إلا بالرشد، فكيف مع الآباء الذين هم أملك بهم من الأوصياء، وإنما الأوصياء بسبب الآباء؛ فالابن بعد بلوغه مع الأب عند ابن القاسم على السفه حتى يعلم رشده، بخلاف البكر؛ لأن البكر عنده لا تجوز أفعالها وإن علم رشدها، خلاف تأويل ابن لبابة عليه من أن الابن بعد بلوغه في ولاية أبيه، وإن علم رشده حتى يطلق من الولاية على ما وقع في المدونة من اللفظ الذي احتج به، وبالله التوفيق.